الأمن الغذائي: تحيين تمركزِ منظمةِ العملِ ضدّ الجوعِ في حالاتِ الطوارئ الملحّة

0
580

كتبه بالفرنسيّة :سيريل لوكياف

نقله إلى العربيّة :الطالبة نور الحايك والطالبة رماح عبد النبيء بإشراف الأستاذ سالم أخشوم، في إطار التعاون بين جامعة ستندال-قرونوبل 3  وموقع غروسيوس أنترناسيونال

على الرغمِ من تفويضٍ واضحٍ حدّدتهُ سياستُها القطاعيّة العائدةُ لسنةِ 2008، فإنَّ بعثةَ الأمنِ الغذائيّ وسبلِ المعيشة التابعةِ لمنظمةِ العملِ ضدّ الجوعِ الفرنسيّةِ لا تُهرع  إلى قلبِ الأزماتِ بشكلٍ كافٍ، ولا سيّما في حالاتِ الطوارئ الملحّة. وفي حين تنشرُ فرقِ القطاعاتِ التقنيّةِ الأخرى على جناح السرعة في بعثاتٍ استطلاعيّةٍ لتقييمِ الحاجاتِ والاستجابةِ للأولوياتِ الإنسانيّةِ، يبقَى قطاعُ بعثةِ الأمنِ الغذائيِ وسبلِ المعيشة، إزاء قدر من الأزمات يزيد أو ينقص، بلا حراكٍ في الأيامِ التي تعقب وقوعَ كارثةٍ مّا. لنْ يعودَ هذا المقالُ على جميعِ محدداتِ هذه الحالة: كحالِ الاستعداداتِ لحالاتِ الطورائ، وانتداب الأشخاص المناسبين، والتعاونِ مع برنامجِ الأغذيةِ العالميّ ومنظمةِ الأغذيةِ والزراعةِ، واستشعار المخاطرِ، وتعبئةِ المواردِ اللازمة لتنسيقِ العمل الإنسانيّ، والالتزام بالجودةِ، وغير ذلك. العديدُ من هذه المحددات مشترك وقطاعاتٍ تقنيّةً أخرى(َ1) هي أقدرُ على الاستجابةِ بحسبِ إيقاع الوقائع. بل مدار هذا المقال على الأخصّ على مبدإ « لا ضرر ولا ضرار » وصِلَتُهُ بالمساعداتِ الغذائيّةِ؛ هو بلا شكّ موضوعٌ يتّجه رأسا إلى حالةِ بعثةِ الأمنِ الغذائيِ وسبلِ المعيشة حيثُ الاستجابة لحالاتِ الطوارئ حينَ تقع غالبًا ما تكونُ هرعًا وهراقا. وغالبًا ما يتمُّ التلويحُ بمبدإ « لا ضرر ولا ضرار » لتبريرِ القصورِ عندَما تنقص عناصرِ التحليلِ نقصا فادحا. إنَّ إصدار هذه الوثيقةِ ترافقُه تدابير داخلية حتّى يتسنّى لبعثةِ الأمنِ الغذائي وسبلِ المعيشة أنْ تستعيدَ مكانَتها المشروعَة وأنْ يكونَ لها القدرةُ على تقييمِ مدى الاحتياجاتِ إلى المساعداتِ الغذائيّةِ  منذُ الأيامِ الأولى التي تلي أزمةً لم  يحُسب لها حساب.

المساعداتُ الغذائيةِ : المعطى الجديد

كثيرا مّا تثير المساعداتُ الغذائيّةُ، أو على الأقلّ طرُقها،  انتقادات المجتمع الإنسانيّ، حتّى ضمنَ منظّمةِ مكافحة الجوعِ، بسببِ آثارِها السلبيّةِ على الاقتصاداتِ المحليّةِ لاحتوائها  موادّ معدّلة جينيًّا وجودةِ المنتجاتِ غيرِ المضمونة وجعلها النّاس متّكلين عليها وكذلكَ من خلالِ الصعوباتِ اللوجستيّةِ المتعلّقةِ بالإمداداتِ. ويُنظرُ إلى المساعداتِ الغذائيّةِ نِظرة سلبيّة لأجلِ جميعِ تلك الأسبابِ التي عايشناها مباشرةً على أرض الواقع وطالما راقبناها عن كثبٍ. ورغم ذلكَ، آملُ أن يجعل هذا المقالُ بعض القرّاءِ يعدّلون من حكمهم أو على الأقلِّ يُعيدُون تقييمَ تصوّرِهم في ضوءِ عناصرَ جديدةٍ من الملفِّ.
رأت المساعداتُ الغذائيّةُ الدُوليّةُ النّور في الولاياتِ المتّحدةِ وفي كندا في بدايةِ الخمسينات. وقدْ كانت جزءًا من السياسةِ الزراعيّةِ القوميّةِ الأمريكيّةِ بهدفِ دعمِ إنتاجِ المزارعينِ في أمريكا الشماليّةِ وتحقيقِ الاستقرارِ في أسعارِ المنتجاتِ الزراعيّةِ من خلالِ تطويرِ سبل تصريفِ فائضِ الإنتاجِ. منذُ البدء، لم تكنِ المساعداتُ الغذائيّةُ مجرّدَ أداةٍ لمكافحةِ الجوعِ في العالمِ ولكن كانت قبلَ كلّ شيءٍ أداةً سياسيةً تستخدمُها البلدانُ المتقدمّةُ من أجلِ النهوض بأسواقِها الزراعيّةِ وزيادَتها (2)
ومع ذلك نشهدُ حاليًّا إصلاحاتٍ عميقةً وتُقدِّمُ المساعداتُ الغذائيّةُ في الوقت هذا تعهدات أنجع من ذي قبل من أجل مكافحةِ الجوعِ. ويُعدُّ كلّ من المراجعة الأخيرة لاتفاقيّةِ المساعداتِ الغذائيّةِ وإنتاج سياسةٍ خاصّةٍ بالمساعداتِ الغذائيّةِ الإنسانيّةِ من قِبَلِ المفوضيّةِ الأوروبيّةِ عامَ   2010 وقانونِ الزراعةِ الجديدِ في الولاياتِ المتّحدةِ من بينِ الدلائل المهمّةِ على  اعتبار أفضلَ لممارساتٍ محمودة في مجال المساعدات الغذائيّةِ. وعلاوةً على ذلكَ، فإنَّ الأرقامَ تنطق بلسان الحال؛ فلقد انخفضَ توزيعُ الموادِ الغذائيّةِ إجمالاً انخفاضا ملحوظا في السنواتِ الأخيرةِ، إذ  تهاوى منْ 11.3 مليون طن متري عامَ 2000 إلى 4,1 مليون طن متري عامَ 2011 محققا حجمُها بذلك انخفاضا بمقدارِ ثلثيْه خلالَ عشرِ سنواتٍ. تستنفد عمليات « الطوارئ » نصيب الأسد من توزيعِ المؤونة في حين أنّ المساعدة « المبرمجة » لا ينالها إلاّ %3 من حجمِ التوزيع. وحدَها الحكومةُ اليابانيّةُ تواصلُ دعم مساعدات غذائيّة برنامجيّة.
زدْ على ذلك أنّ التحويلات المباشرة هي أشدّ ما مسّه  الانخفاض من   أنواع التحويلات منذ عام 2000،  إذ تهاوت من 9 مليون طن متري إلى 2,2 مليون طن متري في عام 2011. تفضّلُ الدولُ المانحةُ حاليّا تشجيعَ الشراءات المحليّةِ أو الإقليميّةِ من بلدٍ ثالثٍ، وهي الشراءات التي حافظت على حجمها منذ عام 2000. وعلى سبيل التحديدِ، في عام 2011، تمّ تأمينُ 40% من المساعدات الغذائيّةِ الطارئةِ عبر تحويلاتٍ مباشرةٍ، و24 ٪ من خلال شراءات من بلدان ثالثة و36٪ عن طريقِ شراءات محليّةٍ. ولذا يمكننا أن نقدّرَ أنَّ الممارساتِ الدوليّة قد تغيّرَت تغيّرا ملحوظا حتى تيسّر لنا النظر إلى المساعداتِ الغذائيّةِ نظرة جديدة بعيْن أكثر رضا. أحدُ التأثيراتِ الجديرة بالتنويه لهذا التطوّرِ الأخيرِ هو إدراج التدخّلاتِ النقديّةِ ضمن تلبية الحاجيات الغذائيّةِ، مع إمكانيّة بعيدة المدى للحدّ من التبرعات العينيّة القادمةِ من أغنى بلدان العالم. وتغطي المساعدات الغذائيّة بحسب موافقة منظمةِ العملِ ضدّ الجوعِ توزيعَ المؤونة، والتحويلات النقديّة بالإضافة إلى القسائمِ (3).
موازاةً لذلك، فيما كانت المساعدات الغذائيّةُ تحظى لفترةٍ طويلةٍ بأولويّة بعثةِ الأمنِ الغذائيّ وسُبلِ المعيشة إبّان حالاتِ الطوارئ، تراجعت أهمّيتها تراجعا كبيرا في السنواتِ الأخيرةِ. فلقد كانت كمّياتُ الموادِ الغذائيّةِ الموزعة تتجاوزُ ضمنَ منظمةِ العملِ ضد الجوعِ الفرنسيّةِ عشرين ألفَ طن متري في سنوات الألفين، يتمّ إرسالُها إلى السودان وإندونيسيا وأفغانستان والقوقاز. أمّا سنة  2013 فلقد وزَّعَت منظمةُ العملِ ضدّ الجوعِ الفرنسيّةِ ، كمية من  الأغذية تقلّ أربع أضعاف عمّا وزّعَتهُ قبْل عشرِ سنواتٍ. وفي الوقتِ نفسه، لم تستطِعْ برامجُ التحويلاتِ النقديّةِ أن تقوم مقام المساعدات الغذائية على الوجه المطلوب في حالات الطوارئ الملحّة إذْ غالبًا ما تعترضها صعوبة تلبية الاحتياجات الطارئة على نطاقٍ واسع.
من الضروري أن يكون لمنظمةِ العملِ ضدّ الجوعِ القدرةُ على تحديث تصوّرِها للمساعداتِ الغذائيّةِ والتخفيف  من تخوّفها من استغلالِ المساعداتِ وعدمِ فعاليتِها. إذ كثيرا مّا أتاح اللجوءُ إلى مبدإ « لا ضرر ولا ضرار » تبرير الانخفاضِ البارق لتدخلاتِنا بالمساعدات الغذائيّةِ. واعتبارا لهذا المعطى الجديد، نجدُ منَ الضروريّ الآن إعادة هذا المبدإ إلى صلبِ عمليّةِ تصميمِ الاستجابةِ لحالاتِ الطوارئ.

تحليلُ الاستجابةِ: ضمانُ جودةِ الجدوى

كذلك إذًا، لجأَ قطاعُ بعثةِ الأمنِ الغذائيّ وسبلِ المعيشة على نحوٍ متزايدٍ إلى تدخلاتٍ نقديّةٍ (مال وقسائم) تجري في الكثير من الأحيان في سياقِ أزماتٍ متكررةٍ ومزمنةٍ، كما لجأ إلى أنظمةٍ متنوعةٍ لتوزيعِ المالِ، من ضمنِها الهاتف المحمولُ وشبكةُ الإنترنت وأجهزةُ الصّرفِ الآليّ وغير ذلك.بشكل مبسّطٍ، في عام 2003، كان المستفيدون من التحويلاتِ النقديّةِ بقدرِ المستفيدين من التوزيعات الغذائيّةِ أو من دعمِ الزراعةِ وتربية الحيوان. ومع ذلك، فإنّ هذه التدخّلاتِ النقديّةِ ليست بطبيعتِها خيرا من عملياتِ توزيعِ الموادِ الغذائيّةِ. فقد يكون لها هي أيضًا على الاقتصاداتِ المحليّةِ والجماعاتِ والأُسرِ عواقب لا تُحمَد. إذ من شأنها الحدُّ من سلطةِ  النساء في اتخاذِ القرارِ في ما يتعلقُ بالتوزيعاتِ الغذائيّةِ وإقصاءُ فئاتٍ ضعيفةٍ لا ترتاد عادةً الأسواق وإحداثُ تضخّم إذا كانت المنتجات الغذائيّة غير متوفّرة بما يكفي في الأسواقِ. وبالإضافةِ إلى ذلك، يمكنُ للتدخلات النقديّةِ أن تشجعَ أيضًا  على الفساد والاحتيال وأن تزيد من انعدامِ الأمنِ للنّاس كما للعاملين.
إنَّ قائمةَ العواقب الوخيمة المحتملةِ ليست شاملةً و تبقى المخاطرُ متعددة تعدّد مخاطر توزيع المؤونة أيضًا. وعلى الرغم من أنّ للتدخلات النقديّة مزايا لا تُنكر من حيث مراعاتُها لكرامةِ المنتفعين بها وحرّية اتخاذهم قراراتٍ بأنفسهم ومن حيثُ المرونةُ وسلاسة الانتقالِ إلى مرحلةِ ما بعد الأزمةِ ومن حيث الفاعليّة قبلاً، يمكن لبرامج التحويلات النقديةِ أن تكون ضارةً أيضاً. وكلٌّ موكَّل بسياقِ التّدخلِ. كما ينبغي لمبدإ « لا ضرر ولا ضرار » أن يُجرى على التوزيعات الغذائية كما يجري على التدخلات النقدية. فليس سبباً وجيهاً تخفيضُ التدخلاتِ النقديّةِ أو إيقافها مثلما جرى عليه الحالُ مع توزيعِ المواد الغذائيّةِ. لا يتعلق الأمر بتغيير الأدواتِ بل طريقةِ مقاربتنا إيّاها.  إنّ في هذا الوضع دعوةً إلى تحليلٍ جديدٍ للأحوال في سياقِ الطوارئ.
لقد طوّرت جماعات العمل الإنساني أطرًا جديدةً للتحليل وذلك بأن ميّزت بوضوحٍ  تحليل الأوضاع من تحليلِ الإجابةِ، ذلك التحليل الذي كان في ما سبق غير مطوّر أو يكاد. في بروتوكول الاستجابة للحالات الطارئة، يأتي « تحليل الاستجابة » بعد تحليل الوضع وقبل التخطيط للاستجابة. اعتماداً على المعلوماتِ المتوفرةِ وعلى المهاراتِ التقنيّةِ، يتمثّل تحليلُ الاستجابة أساسا في انتقاء أحسن خيارِ من خيارات الاستجابة (من مؤن وأموال وقسائم) وأحسن آليّة من آلياتِ التّوزيعِ (التسليم المباشر والهاتف الجوال والتحويلات الإلكترونية وأجهزة الصرف الآلي وغيرها…) من بين عدّة خيارات وآليّات متاحة.
تحليلاتُ الاستجابةِ هذه هي فرصةٌ للنأي عن استجابات موحّدةٍ وقليلةِ الابتكارِ، نحْوَ استجابات تأخذ بعين الاعتبارِ كلّه تنوعَ السياقات والجهاتِ الفاعلة. يجب إيلاءُ اهتمامٍ خاصٍ لفهمِ الأسواقِ فهما أعمق من مجرّد فهم الاحتياجاتِ، ولتنسيق العمل الإنساني ولتحليل المخاطر. يمكّن هذا الاهتمامِ من إقصاء الخيارات ذاتِ المخاطر غير المقبولةِ والتفكير في إجراءات تحدّ من المخاطر وفي تدخّلنا في علاقته بمبدإ « لا ضرر ولا ضرار ».إنّ قطاعَ بعثةِ الأمنِ الغذائيّ وسبلِ المعيشة ماض على مسارِ تحليلِ الاستجابات.

الخاتمة

تُمكّنُ المساعداتِ الغذائيّةِ من مجابهة الأزماتِ الغذائيّةِ أو استباقها ومن مجابهة نقصِ التغذيةِ الحادِّ عندَ الأزماتِ المفاجئةِ. إنّها أداةٌ لا غنى عنها ويجبُ على فرقِ بعثةِ الأمنِ الغذائيّ وسبلِ المعيشة اتّخاذ أماكنهم مجددّاً إبّان الحالاتِ الطارئةِ والمشاركة في البعثاتِ الاستكشافيّة. وقد تطوّرت البيئةُ الهيكليّة للمساعدات الغذائيّةِ على نحوٍ إيجابيّ وأصبحت الممارساتُ أكثرَ تعقيدًا لمراعاةٍ أفضلَ لتنوّعِ الأزمات والاحتياجاتِ. وإنّه لمن الممكن التّدخلُ في الحالات الطارئةِ مع الحدّ من الآثارِ السلبيّةِ على الناس مراعاةً لمبدإ « لا ضرر ولا ضرار ».
برمجةٌ مرنةٌ ومراقبةٌ للتطورِ السّريعِ للسياقِ وللتحاليلِ المنتظمةِ للمخاطرِ ولخياراتِ الاستجابةِ هي أمور في متناولِ جمعيّة مثل منظمة العمل ضد الجوع الفرنسية. إنّ ردّ منظمة العمل ضد الجوع على الأزمةِ العراقيّةِ الحاليّةِ هي الآن بمثابة المثَلِ الموضّح. وينبغي الأخذ بنفس الحلول في ما يتعلّق بسبلِ المعيشة في الحالاتِ الطارئةِ وما يتعلّق أساسا بالانتشال الزراعيّ ودعم الثروةِ الحيوانيّةِ لتلبية متطلبات الأزمات الواقعة أو لاستباق الأزمات القادمة. ورغم طابعه المنهجيّ، فإنّ توزيعَ البذورِ المحسَّنة لا يمثّل في الكثيرِ من الأحيانِ الاستجابة الأنسبَ. لذا فمن الضروريّ إعادةُ النظرِ في الأطرِ التحليليّةِ الأكثرَ شيوعًا من أجلِ إيجادِ خياراتٍ استجابةِ مجديةٍ ومبتكرةٍ.

(1) المياه والنظافة والصرف الصحي – الصّحة العقليّة والرعاية – الصّحة والتّغذية.
(2) منظّمة العمل ضد الجوع 2006، وثيقة تموضع بشأن العواقب السياسيّة للمساعدات الغذائيّة.
(3) تشمل اتفاقيّة المساعدة الغذائيّة كل من المواد الغذائيّة وسبل المعيشة (البذور والأدوات وأواني الطبخ والثروة الحيوانيّة) والمال والقسائم والمنتجات الغذائيّة والعلاجيّة.