النزاع السوري: مقاربة جيوسياسيّة

0
3103

كتبه بالفرنسيّة: جون-بيار فيال عضو في مجلس الشيوخ الفرنسيّ ورئيس مجموعة الصداقة الفرنسية السورية بالمجلس.

ترجمه إلى العربيةقسم ماجستير التعاون الدّولي والتّـواصل متعدّد الألسن: نور حايك – أثينة مدّور- لمياء باباي رويس بإشراف الأستاذ سالم أخشوم، في إطار التعاون بين جامعة استندال-قرونوبل 3 وموقع غروسيوس أنترناسيونال.


الكلام في الجانب الجيوسياسيّ من النزاع السّوري في وقت محدود يُضطرّ إلى تناول بعض الوجوه دون بعض، تلك التي سأقدمها على غيرها من منظور تجربتي الشخصية. فيما يأتي، سيتعلّق مقالنا بالعنصر الاقتصاديّ وبمكانة فرنسا وبالعنصر الإسلاميّ وبالعنصر الإقليميّ لأن ما يميّز الأزمة السوري هو الجمع بين ما لا يقلّ عن ثلاثة من تلك رهانات وبين تاريخ لا يقلّ عنها تعقيدا.

العنصُـر الاقتصاديّ ومكانة فرنسا

عندما عادت المياه إلى مجاريها بين نيكولا ساركوزي وبشار الأسد خلال صيف 2008، كان ذلك بمثابة قطيعة حقيقيّة في السياسة الفرنسية. فبمبادرة من قطر وفي غضون بضعة أشهر، تقرّب الرئيس الفرنسي من نظيره السّوري بدعوته إلى المشاركة في احتفالات الرابع عشر من جويلية/تموز وبأداء زيارة رسّمية إلى دمشق. وكان من بين الملفات السياسية الاقتصادية المطروحة من قِبل سوريا، الملفّات المتأثّرة سلبًا بالحظر الأمريكي وخاصة ملف الإيرباص. إذ عبّرت سوريا عن رغبتها في الحصول على طائرات جديدة وفي الحصول كذلك على قطع الغيار اللازمة لصيانة أسطولها الجويّ الممنوع من التحليق بسبب الحظر الأمريكي. بعد سنة من ذلك التاريخ طُرحت المسألة من جديد مع فرنسوا فيّون خلال زيارة له للشرق الأوسط كنت قد شاركت فيها. والواقع أن فرنسا، رغم إلتزام نيكولا ساركوزي، لم تقدر على فكّ الحظر الأمريكي على طائرات الإيربص أو مداورته، وقنِعت بأن تقترح على سوريا طائرات ATR الفرنسية التي لا يتجاوز مداى خدمتها المنطقة.
في مجال مغاير تمامًا، أبدى الأردن اهتماما بالحصول على مفاعل نووي صغير كما أبدت الإمارات العربية رغبتها بالحصول على مفاعل أكبر. وإذ نهنّئ أنفسنا – بالنظر إلى ما جرى – بوأدِ ذينك المشروعيْن فإنّ الوقت لم يزل مناسبا نعيد لإعادة طرق مسألة الطاقة وهي محورية بالنسبة لدول الشرق الأوسط ولدول المتوسّط. وفي هذا الصّدد، يجب الاعتراف لنيكولا ساركوزي بفضل إطلاق المبادرة الطموح « الاتحاد من أجل المتوسط » التي كان من المفروض أن تجمع دول حوض البحر الأبيض المتوسط على عددٍ من المشاريع من بينها الطاقة – ولا سيّما الشمسية منها. لكنّ ألمانيا التي لا تطلّ على المتوسط سرعان ما ظهرت على الساحة من خلال المشروع الطموح « ديزرتيكDESERTEC  » الذي يتمثّل في استخدام الطاقة الشمسية من بلدان الجنوب لصالح أوروبّا. وإذا كان على ألمانيا مراجعة استراتيجيتها الطاقية بعد كارثة فوكوشيما، فإنها تظلّ اليومَ من حول المتوسّط واحدة من الفواعل الأكثر التزاما في مجال الطاقة، ويشهد على ذلك العقودُ المهمّة الأخيرةُ الممضاة مع مصر. يدلّ هذا البعضُ من الأمثلة على الحضور والقوّة الاستراتيجيّة الفرنسيّيْن في المنطقة ويثير حولهما التساؤلات، ناهيك عن سياسات الحظر التي ليس بوسعها إلاّ أن تشكّل تحدّيا لأوروبا في خضوعها للقرارات الأمريكية.

العنصر الإسلاميّ

يجب ألاّ يمنعنا واقع الإرهاب ولا الأصولية الإسلامية من النظر إلى الظواهر التي كانت لهما جذورًا أو مصادر إلهام سواءً كانت الوهابية أم الإخوان المسلمين.

الوهابيّة

لئن كانت الوهابية كثيرا مّا تذكر على أنها الشكل الأكثر تقليديّة للإسلام وأنها منبع الأصولية فإن أهميتها الحقيقة وتطوّرها قد حجبهما بيُسر الوزنُ السياسي والاقتصادي للمملكة العربية السعودية في تلك المنطقة. عند بدء النزاع السوري وانخراط النظام السوري في القمع، أذكرُ المساعي العديدةَ لدى السفيرة السورية بفرنسا، السيدة لمياء شكّور، للتعبير عن رفضنا لذلك، مما كان يثير في كلّ مرة ردّة فعلها المتشنجة على رفضنا اعتبار العمليّات الميدانية من تأثير التيّـار الوهّابيّ، المدعوم من المملكة العربية السعودية، وأفعاله. زدْ على ذلك ما نذكره من علاقات بين النظام السعودي والنظام السوري يغذُوانها مقتا وكراهية. ولئن كانت بداية الثورة السوريّة – بلا أدنى شك – ديمقراطية ومدنيّة ولا دينيّة فإنه يتعيّن علينا تقدير ثقل الأصولية الدينية في المسار السّوري. كما لا يستطيع أحد إنكار أن مختلف الأطراف السورية الفاعلة تعترف أن الوهابية قد حققت خلال السنوات العشر الأخيرة تقدما وعمّت جزءا واسعا من الأراضي السّوري. ويعترف مسؤولو الأجهزة الأمنية الفرنسيون الذين كانوا على صلة متنية بالنظام آنذاك بأنّهم على كانوا منذ سنة 2004/2005 على دراية كافية بهذا الموضوع، ممّا يجعلهم قادرين على أن يرفعوا إلى السلطات معلومات دقيقة وباعثة على القلق. أذكرُ لقاءً جمعني شخصيا في دمشق بدايةَ عام 2010 بجماعة من شباب قادة المجتمع المدني والتّجاري والثقافي. لقد كانوا يعبّرون، وهم يتحدثون تلقائيا عن ضرورة تطوير النظام نحو مزيد من الديمقراطية، عن انشغالهم ومخاوفهم من الخطر الدينيّ.

الإخوان المسلمون

ليس الإخوان المسلمون الذين يناهز وجودهم في المشهد السياسي قرنا من الزمان بمنأى عن إثارة تساؤلات عن حقيقة ما يمثـلونه بالضبط. فقضية الإخوان المسلمين هي في الحقيقة تلك المتعلقة بمقاربة إسلام « معتدل » مروّج له على نطاق واسع كان على مدى سنوات 2012 موضوع الساعة خلال المؤتمرات وحلقات النقاش الباريسية، كما تمت مناقشته على نطاق واسع أيضا حول موائد النقاش التونسيّة. عند مساءلة السلطات السّورية عمّا كان سببا في تدهور العلاقات بين سوريا وتركيا، فإنّ الإجابة لا تخلو من التحدّيات.
في السنوات التي سبقت « الربيع العربي »، كان تحسّن العلاقات بين سوريا وتركيا مفاجئا بسرعته كما بشدّته، ولكن لمّا طلب القادة الأتراك في بداية سنة 2011 منالسلطات السّورية ضمّ مكوّن إخواني إلى الحكومة، تدهورت العلاقات تدهورا حاداّ. وأما الوضع التونسي فجدير بالتّركيز عليه إذ نعلم إلى أيّ مدًى انصبّ تيـقّـظ السلطات السياسية على وضع الإخوان المسلمين فيه وخاصّة من قِبل الجار الجزائريّ. وهنالك أيضا، تكفي الإشارة إلى أنّ العلاقات الدبلوماسية مع سوريا في ظلّ حكومة النهضة كان قد تمّ تعليقها فورًا ثمّ تمّ استئنافها عقب الانتخابات التشريعية الأخيرة من قِبل الحكومة الجديدة ضمن مشروع إعادة فتح السِّـفارة.

التشدّد الإسلامي وظهور جماعات قويّة من قبيل النصرة وداعش

لئن كانت الأصولية واقعـا قديما بالنسبة إلى عدد مهمّ من المجموعات، فإنّ زعزعة استقرار المنطقة كما هو حال ليبيا والعراق، سيسرّع من أسباب ظهور مجموعات ذات قوّة. يمثل تنظيم الدولة الإسلامية عيّنـة من هذا التطوّر وقدْ جمع بين مكوّن ديني إرهابي ومكوّن عسكري وإداريّ شديد الـتّـماسك. ولئن كان هذا الإرهاب يتغذّى من نزاعات شتّى، فإنّه لا محالة يطرح على الأقلّ ثلاثة اعتبارات أساسية تتعلّق ببقائه وبتطوّره:

– أهمية هذه الجماعات تدعو إلى التساؤل عن مصادر تمويلها.

– حريّة تحرّكها ونشاطها تدعو إلى التساؤل عن مدى تواطؤ دول الجوار.

– الخطابات المتهجمة بلهَ الحربية المعلنة اليوم هي عوَض سيّئ لصمت القوى العظمى الطويل.

لدى زيارته باريس في شهر سبتمبر الماضي، سُئِل العاهل الأردني الملك عبد الله عن هذا الموضوع وعن وضع دول الشرق الأوسط والقوى العظمى وكانت إجابته على قدر من الإيجاز والوضوح حين قال إنّ الدول التي تشتري طائرات البوينغ و »الإيرباص » يجب أن لا تعتبر أنّها في حماية تلك التي تبيعها إيّاها!

العنصر الإقليميّ

قد تفضي بنا خصوصيّة الأزمة السورية إلى فحص وضع كلّ بلدان الجوار إلا أنّ ثلاثة منها جديرة بتسليط الضوء عليها بشكل خاص وهي تركيا ولبنان وإسرائيل.

تركيا

لئنْ طرحت نفاذيّــة الحدود تساؤلا حقيقيا بالنظر إلى نشاط مختلف المجموعات الإرهابية من بينها جبهة النصرة وداعش، فإنّ وضع الأكراد ولا سيّما حزب العمال الكردستاني يشكّل قضيّة ذات بالٍ في المنطقة. فبمناسبة  زيارته باريس في شهر كانون الثاني / جانفي الماضي، لم يفت رئيس البرلمان التركي التأكيد على ضرورة أن يبادر المجتمع الدولي بعمل جبّار وحازم ضد الإرهابيين. ولكنّه خصّص قولَـه بالإشارة إلى أنّ حزب العمال الكردستاني يشكّل بالنسبة إلى تركيا تحدّيا رئيسيّا وذا أولوية في حربها على الإرهاب. بيد أننا لم نزل نذكر تصريحات لوران فابيوس خلال صيف 2014، متوجّها إلى المجتمع الدولي وإلى الأوروبيين خاصة يستحثّهم للتحرك قبل فوات الأوان من أجل الدفاع عن الأكراد في العراق معتبرا أنّ القضيّة واحدة بالنسبة إلى بني جلدتهم في سوريا. وقد كشف الوضع في كوباني عن مماطلة المجتمع الدولي لاتخاذ قرار المساعدة الممكن توفيرها. أمّا فيما يخصّ الأتراك، فلم يخفِ هؤلاء أن ممانعتهم هي ببساطة نتيجة لرفضهم أن يروا السلاح يصل إلى كوباني ليس إلاّ، معتبرين أن هذه الأسلحة قد تقع في آخر الأمر بين أيدي حزب العمال الكردستاني. وبالمثل، فإنّ نظرية « منطقة حظر جويّ » -التي رفضها الأمريكيّون بذكاء- تنبع من مسعًى غير بريء من إثارة التساؤل عن المخاطر التي قد تنجم عن منطقة كهذه وعن وجـه استغلالها من قِبل الأطراف المحلّية الفاعلة.
ولعلّ ممّا يُحمد من عقبى هذه  الوقائع هو المفاوضات التي بدأت على المستوى السّياسيّ بين المسؤولين الأكراد وبين الحكومة التركيّة في وقت أعلن فيه حزب العمّال الكردستاني التخلّيَ عن الكفاح المسلّح، وهوما أخذه الرئيس التركي فورا في الحسبان. ولقد كان على المجتمع الدّولي والأوربيّ تحديدا أن يتنبّه إلى رعاية هذا الالتزام لتجـنّب تبلّر ما تمثّـله المسائل الكرديّة وتصلّبه.

لبنان

تكمن الصعوبة الأولى في ضعف الدّولة اللبنانيّة. ولعلّ أوّل نتيجة لهذا الضعف هي لا محالة تعطّل سير مؤسّساتها. ولا يفوّت بعض أصحاب السلطة أن يعيب على فرنسا بقاءها حبيسة رؤية في التسيير مستندة إلى اتفاق 14 أذار/مارس 2005 والحال أنّ لبنان تغيّر وتغيّرت المعطيات. فعلى الصّعيد العسكريّ أو الأمنيّ، لمْ يعد الوضع ملائما لذلك أية ملاءمة إذ نعلم بأنّ راية داعش ترفرف فوق طرابلس وبأنّ المسألة لمْ تعد بالنسبة إلى كثير من الناس معرفة إن كان الإرهاب سيضرب من جديد بل متى سيضرب مرّة أخرى.

إسرائيل

إنّ الشأن ليس شأنَ الحديث عن نفاذيّة الحدود أو شأنَ تصريحات بنيامين ناتنياهو ولـينُه اللفظيّ الصّادق أو الكاذب إزاء داعش، وإنّما الشأن شأنُ القضيّة الأساس التي لا تمّـحي من أيّ نقاش، ألا وهي القضيّة الفلسطينيّة. إنّ إسرائيل بجعلها القضية الفلسطينية قضية أمنيّة لا غير ترفض جعل الملفّ السياسيّ يمضي قُدُمًـا كما في عهد إسحاق رابين. إنّ شريطا وثائقيّا حاصلا على الأوسكار، عنوانه « حرّاس البوّابة The Gatekeepers, » يجسّد الوضع تجسيدا يحبس الأنفاس. إنّه خلاصة مواقف قيادات قديمة في جهاز الأمن العام الإسرائيلي « شاباك » من الذين لا يرقى الشك إلى صرامتهم في ما يتعلّق بأمن إسرائيل. لقد كانت النتائج التي توصّلوا إليها غاية في الوضوح والقسوة: إنّ إسرائيل بكفاحها التامّ من أجل سياسة أمنيّة ترفض الانخراط في استراتيجية سياسيّة، وهو ما يقودها إلى حالة من انعدام الأمن التّام. في مضمار مغاير تماما، لا يألو بعض من علماء الاجتماع أن يلتمسوا في الواقع الفلسطينيّ أسبابا تغذّي الجهاديّة في نفوس شبّان يروْن أنّ أروبّـا بدعمها إسرائيل، قد انخرطت في حرب على العرب وعلى عدالة معركتهم المتطرّفـة وشرعيّـتـها وهو ما قد يُعتبر بوجه من الوجوه حربا صليبيّة جديدة.

اسمحوا لي بأن أختمَ بطرح تساؤل ذي بعد مختلف تمامًـا. فبالنظر إلى عدد المتحاربين، وعدد من يشعل النّار منهم عددُ من يطفئها، وإلى الأموال الطائلة التي تنفق (يقدّر الخبراء أنّ حربيْ أفغانستان والعراق قد تكلّفان من 4000 إلى 6000 مليار دولار) وبالنظر إلى ما يذاد عنه من المصالح المتنوّعة ما بين قوّة اقتصاديّة ونفوذ دينيّ، فإنّنا لا يسعنا إلاّ التذكير بما نبّه عليه أيزنهاور سنة 1961 من الاحتراس السياسيّ من « المركّب العسكريّ الصناعي ».